فَـضِـيْـلَـةُ الـصَّـبْـرِ وَأَنْـوَاعُـهُ
- بتاريخ : الأربعاء 9 شعبان 1444ﻫ
- مشاهدات :
فَـضِـيْـلَـةُ الـصَّـبْـرِ وَأَنْـوَاعُـهُ
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، مُذْهِبِ الْبَأْسِ ، سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ ، فَالرَّجَاءُ لِلْعَبْدِ خَيْرٌ مِنَ الْيَأْسِ ؛ أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ حَمْدًا يَفُوقُ عَدَدَ الْأَنْفَاسِ ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، عَلِمَ هَوَاجِسَ النُّفُوسِ ، وَجَلَّ عَنِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ وَالنُّعَاسِ ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَشَادَ مَنَارَ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَمَ الْأَسَاسَ ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ، وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ .
أمَّا بَعْدُ : فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ : أُوْصِيْكُم وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ فَهِيَ خَيْرُ لِبَاسٍ .
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : إِنَّ مِنْ مَحَاسِنِ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِ الَّتِي يَتَحَلَّى بِهَا : الصَّبْرَ ، وَاحْتِمَالَ الْأَذَى فِي ذَاتِ اللهِ تَعَالَى .
وَحَقِيقَةُ الصَّبْرِ : حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ اللهُ ، وَحَبْسُهَا عَمَّا نَهَى عَنْهُ اللهُ ، وَحَبْسُهَا عَنِ التَّسَخُّطِ مِنْ أَقْدَارِ اللهِ .
فَالْمُسْلِمُ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَلَى مَا تَكْرَهُهُ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَطَاعَتِهِ ، وَيُلْزِمُهَا بِذَلِكَ إِلْزَامًا ؛ وَيَحْبِسُهَا دُونَ مَعَاصِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَلَا يَسْمَحُ لَهَا بِاقْتِرَابِهَا ، وَلَا يَأْذَنُ لَهَا فِي فِعْلِهَا مَهْمَا تَاقَتْ لِذَلِكَ بِطَبْعِهَا وَهَشَّتْ لَهُ ؛ وَيَحْبِسُهَا عَلَى الْبَلَاءِ إِذَا نَزَلَ بِهَا فَلَا يَتْرُكُهَا تَجْزَعُ ، ويَحْبِسُ اللِّسَانَ عَنِ النِّيَاحَةِ وَالتَّسَخُّطِ ، وَالْجَوَارِحَ عَنْ لَطْمِ الْخُدُودِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ .
وَالْجَزَعُ وَالسُّخْطُ عَلَى الْأَقْدَارِ مُعَاتَبَةٌ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ، وَالصَّابِرُ فِي كُلِّ ذَلِكَ مُسْتَعِينٌ باللهِ الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ ؛ يَتَذَكَّرُ أَنَّ أَقْدَارَ اللهِ جَارِيَةٌ ، وَأَنَّ قَضَاءَهُ عَدْلٌ ، وَأَنَّ حُكْمَهُ نَافِذٌ ، صَبَرَ الْعَبْدُ أَمْ جَزِعَ ، غَيْرَ أَنَّهُ مَعَ الصَّبْرِ الْأَجْرُ ، وَمَعَ الْجَزَعِ الْوِزْرُ !! .
عِبَادَ اللهِ : الصَّبْرُ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، وَهُوَ نِصْفُ الْإِيمَانِ ، فَالْإِيمَانُ نِصْفَانِ : صَبْرٌ وَشُكْرٌ ، وَالصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجُثْمَانِ ، قَالَ تَعَالَى : ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ ، وَأَخْبَرَ ﷺ أَنَّ الصَّبْرَ خَيْرٌ كُلُّهُ ، وَأَنَّهُ مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا لَهُ وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ .
وَالصَّبْرُ أَنْوَاعٌ ثَلاثَةٌ : صَبْرٌ بِاللهِ ، وَصَبْرٌ للهِ ، وَصَبْرٌ مَعَ اللهِ .
فَالْأَوَّلُ : الصَّبْرُ بِاللهِ ، أَيِ : الِاسْتِعَانَةُ بِهِ ، فَهُوَ الْمُصَبِّرُ ، وَصَبْرُ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ لَا بِنَفْسِهِ ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ﴾ .
وَالثَّانِي : الصَّبْرُ للهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ لَهُ مَحَبَّةَ الله ، وَإِرَادَةَ وَجْهِهِ وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ ، لَا إِظْهَارَ قُوَّةِ النَّفْسِ ، وَاسْتِحْمَادَ الْخَلْقِ ، وَغَيْرَ ذَلِكَ .
وَالثَّالِثُ : الصَّبْرُ مَعَ اللهِ ، وَهُوَ دَوَرَانُ الْعَبْدِ مَعَ مُرَادِ اللهِ مِنْهُ ، وَمَعَ أَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ ، صَابِرًا نَفْسَهُ مَعَهَا ، سَائِرًا بِسَيْرِهَا ، مُقِيمًا بِإِقَامَتِهَا ، يَتَوَجَّهُ مَعَهَا أَيْنَ تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهَا ، وَيَنْزِلُ مَعَهَا أَيْنَ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهَا .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ .
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر على توفيقه وامتنانه ، والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه ، وبعد :
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : إِنَّ رَوْحَ التَّقْوَى شُكْرُ الْمَوْلَى عَلَى نَعْمَائِهِ ، وَالصَّبْرُ وَالرِّضَا بِمُرِّ قضَائِه .
وَفِي تَقْدِيرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلضَّرَّاءِ وَالْمَكَارِهِ حِكَمًا لَا تَخْفَى ، وَأَلْطَافًا وَتَخْفِيفَاتٍ لَا تُحَدُّ وَلَا تُسْتَقْصَى . فَالْمُؤْمِنُ حِينَ تُصِيبُهُ الْمَكَارِهُ يَغْنَمُ عَلَى رَبِّهِ فَيَكُونَ مِنَ الرَّابِحِينَ ، وَيَغْنَمُ الْقِيَامَ بِوَظِيفَةِ الصَّبْرِ فَيَتِمَّ لَهُ أَجْرُ الصَّابِرِينَ ، وَيَرْجُو الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ فَيَحْظَى بِثَوَابِ الْمُحْتَسِبِينَ ، وَيَنْتَظِرُ الْفَرَجَ مِنَ اللهِ فَيَحُوزَ أَجْرَ الرَّاجِينَ لِفَضْلِهِ الطَّامِعِينَ ، فَإِنَّ أفْضَلَ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ الْعَاجِلِ ، وَرَجَاءُ الثَّوَابِ الْآجِلِ .
وَرَبُّنَا جَلَّ وَعَلَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَعْدَلُ الْحَاكِمِينَ ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ أَنَّهُ لَا يُتَابِعُ عَلَيْهِمُ الشَّدَائِدَ ، بَلْ يُعْقِبُ الشِّدَّةَ بِالرَّخَاءِ ، وَالِابْتِلَاءَ بِالرَّحْمَةِ وَسَابِغِ النَّعْمَاءِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ ، تَكَرَّرَ الْيُسْرُ بَعْدَ الْعُسْرِ مَرَّتَيْنِ ، وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ . فَحَيْثُمَا يُوجَدُ الْعُسْرُ عَلَى تَنَوُّعِ أَلْوَانِهِ وَمُخْتَلَفِ أَشْكَالِهِ ، يُوجَدُ إِلَى جَانِبِهِ يُسْرٌ يُفَرِّجُ الْكُرْبَةَ ، وَيَجْبُرُ الْقَلْبَ الْكَسِيرَ ، وَيُوَاسِي الْجِرَاحَ ، وَيُنْسِي الْآلَامَ وَالْأَحْزَانَ .
وَخَاصَّةً إِذَا لَجَأَ فِي شِدَّتِهِ وَبَلَائِهِ إِلَى رَبِّهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يُبْدِلَهُ فِي شِدَّةٍ رَخَاءً ، وَفِي حُزْنٍ فَرَحًا ، وَفِي هَمٍّ فَرَجًا وَيُسْرًا . اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ بَلَاءٍ عَافِيَةً .
عِبَادَ اللهِ : قَالَ اللهُ جَلَّ في عُلَاهُ : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ . اللَّهُمَّ ارْضَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ، وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَالصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ . اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ الْمَهْمُومِيْنَ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ ، وَنَفِّسْ كَرْبَ الْمَكْرُوبِيْنَ ، وَاقْضِ الدَّيْنَ عَنِ الْمَدِينِيْنَ ، وَاشْفِ مَرْضَاهُمْ ، وَاغْفِرْ لِمَوْتَاهُم يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ .
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ وُلَاةَ أُمُورِنَا ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ ولاةَ أمرِنا لما تحبُّه وترضاه ،
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى .
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ، ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ .
انتقاء وتنسيق مجموعة خطب منبرية
قناة التيلغرام :
t.me/kutab
وصلنا ولله الحمد إلى 19 مجموعة واتس ، وهذا رابط المجموعة رقم 17