الإِجَـازَةُ الصَّيْفِيَّةُ .. بَيْنَ الْغُـنْمِ وَالْغُـرْمِ

الإِجَـازَةُ الصَّيْفِيَّةُ .. بَيْنَ الْغُـنْمِ وَالْغُـرْمِ

الْخُطْبَةُ الْأُوْلَى

      الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَتَحَ لِعِبَادِهِ طَرِيقَ الْفَلَاحِ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالْبِرُّ وَالصَّلَاحُ، الْمُجْزِلِ لِمَنْ عَامَلَهُ بِالْأَرْبَاحِ، أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمٍ تَتَجَدَّدُ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى مَا صَرَفَ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَأَزَاحَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، خَالِقُ الْخَلْقِ وَفَالِقُ الْإِصْبَاحِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الْمَبْعُوثُ بِالْهُدَى وَالصَّلَاحِ، اللهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ مَا بَدَا نَجْمٌ وَلَاحَ.

      أمَّا بَعْدُ؛ أَيُّهَا النَّاسُ : فَأُوْصِيْكُم وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

      أَيُّهَا المُسْلِمُونَ:  حَيَاةُ الْمَرْءِ أَيَّامٌ مَعْدُودَةٌ، وَدَقَائِقُ مَحْدُودَةٌ، كُلَّمَا مَرَّ مِنْهَا شَيْءٌ ذَهَبَ مَعَهُ الْعُمُرُ، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ وَيَسْتَقِرَّ.

      وَلَقَدْ فَرَّطَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي حَيَاتِهِمْ وَأَوْقَاتِهِمْ؛ بَعْضُهُمْ بِسَبَبِ عَدَمِ إِدْرَاكِهِ لِقِيمَةِ الْوَقْتِ، وَبَعْضُهُمْ بِسَبَبِ التَّكَاسُلِ وَالتَّسْوِيفِ؛ وَهُمَا سِلَاحَانِ قَاتِلَانِ لِأَوْقَاتِ النّاسِ، وَبَعْضُهُمْ بِسَبَبِ الصُّحْبَةِ السَّيِّئَةِ الَّتِي تَعْمَلُ عَلَى قَتْلِ دِينِ وَأَخْلَاقِ وَأَوْقَاتِ أَصْحَابِهِمْ، وَبَعْضُهُمْ يُقَطِّعُ الزَّمَانَ بِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ وَالسَّمَرِ، بِلَا مَعْرِفَةٍ لِقَدْرِ الْعَافِيَةِ وَشَرَفِ الْعُمُرِ.

      فَحَرِيٌّ بِالْمَرْءِ مُحَاسَبَةُ نَفْسِهِ، وَتَنْظِيمُ وَقْتِهِ لِاغْتِنَامِ حَيَاتِهِ وفَرَاغِهِ وَإِنْجَازِ أَعْمَالِهِ، وَحَرِيٌّ بِهِ تَحْدِيدُ أَوْلَوِيَّاتِهِ، وَالْمُوَازَنةُ بَيْنَ مَسْؤُولِيَّاتِهِ، فَلَا يُقَدِّمُ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ، وَهَذَا مَنْهَجُ الْعُقَلَاءِ، وَسَلَفِ الْأُمَّةِ الصُّلَحَاءِ.

      وَالصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللَّهِ فِي الْحَيَاةِ، وَأَجْزَلِ عَطَايَاهُ، وَأَوْفَرِ مِنَحِهِ وَهَدَايَاهُ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ: قَالَ ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا». 

      وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «سَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ، فَإِنَّهُ مَا أُوتِيَ عَبْدٌ بَعْدَ يَقِينٍ خَيْرًا مِنْ مُعَافَاةٍ».  فَحَقِيقٌ بِمَنْ رُزِقَ التَّوْفِيقَ لِلْعَافِيَةِ مُرَاعَاتُهَا، وَحِفْظُهَا، وَحِمَايَتُهَا عَمَّا يُضَادُّهَا.

      وَهَذَا الْعُمُرُ الَّذِي تَعِيشُهُ – أَيُّهَا الْعَبْدُ – هُوَ مَزْرَعَتُكَ فِي الْآخِرَةِ: فَإِنْ زَرْعَتَهُ بِخَيْرٍ، جَنَيْتَ السَّعَادَةَ، وَكُنْتَ مَعَ الَّذِينَ يُنَادَى عَلَيْهِمْ فِي الدَّارِ الْبَاقِيَةِ: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾، وَإِنْ ضَيَّعْتَهُ فِي الْغَفَلَاتِ، وَزَرَعَتْهُ بِالْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ، نَدِمْتَ يَوْمَ لَا تَنْفَعُ النَّدَامَةُ، وَتَمَنَّيْتَ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ!! ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾.

      فَحَرِيٌّ بِالْمُسْلِمِ أَنْ يَصْرِفَ أَوْقَاتَهُ وَصِحَّتَهُ وَفَرَاغَهُ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْخَيرِ، إِذِ الْوَقْتُ يَمُرُّ سَرِيعًا كَمَرِّ الْغَمَامِ، وَالدُّنْيَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ: (أَمْسٌ) وَقَدْ ذَهَبَ بِمَا فِيهِ، وَ(الْغَدُ) وَلَعَلَّكَ لَا تُدْرِكُ مَا فِيهِ، وَ(الْيَوْمُ) هُوَ لَكَ، فَاعْمَلْ فِيهِ، قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ فَتَنْدَمَ عَلَيهِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمٍ غَرَبَتْ شَمْسُهُ: نَقَصَ فِيهِ أَجَلِي، وَلَمْ يَزْدَدْ فِيهِ عَمَلِي».

     اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الْغَفَلَاتِ وَمَوَارِدَ الْهَلَكَةِ وَالْحَسَرَاتِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ.

     أَقُوْلُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

      الْحَمْدُ للهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، لاَ رَبَّ لَنَا سِوَاهُ، وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ومُصْطَفَاهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُ.  أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تَقْوَاهُ. 

      أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : إِنَّ الْإِسْلَامَ جَعَلَ لِلنَّفْسِ شَيْئًا مِنَ التَّرْوِيحِ الْمُنْضَبِطِ بِالشَّرْعِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ لَعِبَ الْحَبَشَةُ بِرِمَاحِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْعِيدِ: «لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.

      وَالنَّاسُ فِي الْعُطْلَةِ أَقْسَامٌ : مِنْهُمْ مَنْ يَقْضِي وَقْتَهُ فِي أَعْمَالِ الْخَيْرِ، مِمَّا يُكْسِبُهُ أَجْرَاً، وَيُدَّخَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ذُخْرًا، مِنْ مَزِيدِ بِرٍّ لِلْوَالِدِينِ، أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ، أَوْ زِيَارَةٍ لِأَخٍ فِي اللهِ، أَوْ تَعْلِيمِ أَوْلَادِهِ وَتَحْفِيظِهِمْ كِتَابَ رَبِّهِ.

      وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْضِي الْعُطْلَةَ بِالسَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، فَهَذَا قَدْ عَرَفَ قِيمَةَ الْوَقْتِ وَوُفِّقَ لِاسْتِغْلَالِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَافِرُ لِلنُّزْهَةِ دَاخِلَ الْبِلَادِ، مُحَافِظًا عَلَى دِينِهِ؛ فَعَمَلُهُ مُبَاحٌ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ فِيهِ.

      وَبَعْضُ النَّاسِ: يَقْضِي الْعُطْلَةَ فِي اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفَعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ يُسَافِرُ إِلَى بِلَادِ الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، وَالْعُهْرِ وَالْخُمُورِ، لِيَنْغَمِسَ فِي أَوْحَالِ الضَّلَالَةِ، وَيَرْتَعَ فِي أَوْكَارِ السَّفَالَةِ، وَرُبَّمَا يَسْتَصْحِبُ مَعَهُ نِسَاءَهُ وَأَوْلَادَهُ، لِيَأْخُذُوا حَظَّهُمْ مِنَ الشَّقَاءِ، فَمِثْلُ هَذَا قَد ضَيَّعَ الزَّمَانَ، وَبَاءَ بِالْإِثْمِ وَالْخُسْرَانِ -إِنْ لَمْ يَتُبْ إِلى رَبِّهِ الرَّحْمَنِ-، نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ.

      فَاتَّقُوا اللهَ – عِبَادَ اللهِ -، وَاغْتَنَمُوا فِي حَيَاتِكُمْ صَالِحَ الْأَعْمَالِ، مَا دُمْتُمْ فِي زَمَنِ الْإِمْهَالِ، وَبَادِرُوا بِالِاسْتِقَامَةِ مِنَ الْمَعَاصِي قَبْلَ تَصَرُّمِ الْآجَالِ.

      عِبَادَ اللهِ : قَالَ اللهُ جَلَّ في عُلَاهُ : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾.

      اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ. اللَّهُمَّ ارْضَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَأَتْبَاعِهِمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ.  اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ وُلَاةَ أُمُورِنَا. اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ الْمَلِكَ سَلْمَانَ بْنَ عبدِالعَزيزِ، وَوَلِيَّ عَهْدِهِ الْأَمِينَ الْأَمِيرَ مُحَمَّدَ بْنَ سَلْمَانَ بِتَوْفِيقِكَ وَأَيِّدْهُمَا بِتَأْيِيدِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ الْمَهْمُومِيْنَ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ الْمَكْرُوبِيْنَ، وَاقْضِ الدَّيْنَ عَنِ الْمَدِينِيْنَ، وَاشْفِ مَرْضَاهُمْ، وَاغْفِرْ لِمَوْتَاهُم، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. اللَّهُمَّ الْطُفْ بِإِخْوَانِنَا فِي فِلِسْطِينَ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْيَهُودِ الْمُعْتَدِينَ، وَأَعْوَانِهِمْ مِنَ الْكَفَرَةِ وَالْخَوَنَةِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ. اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ بِلَادَنَا وَعَقِيْدَتَنَا وَقَادَتَنَا وَرِجَالَ أمْنِنَا بِسُوءٍ فَأَشْغِلْهُ بِنَفْسِهِ، وَرُدَّ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيراً عَلَيْهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيْزُ.

      ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

انتقاء وتنسيق مجموعة خطب منبرية

قناة التيلغرام :

https://t.me/kutab

الموقع الاكتروني :

https://kutabmnbr.com/

وصلنا ولله الحمد إلى 20 مجموعة واتس ، وهذا رابط المجموعة رقم 17

https://chat.whatsapp.com/IjHoqRhJJtbLFYw2XqdmQo

  • جزى الله خيرا كاتبها .