مكاتة المساجد

الخطبة الأولى
إن الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ” أَمَّا بَعْدُ:
عبادَ الله عِندَمَا قَدِمَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ إلى المَدِينَةِ نَزَلَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ، وَأَقَامَ فِيهِمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ‌وَكَانَ أَولُ مَا فَعَلَ أَنْ أَسَّسَ ‌مَسْجِدَ ‌قُبَاءَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، ثُمَّ رَكِبَ وَمَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فِي مَكَانِ مَسْجِدِهِ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ وَهَمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ، فَابْتَاعَهُ مِنْهُمَا وَاتَّخَذَهُ مَسْجِدًا.
هَلْ لاحَظتُم كَيفَ أَنَّ النَّبيَّ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ افتَتَحَ قُدومَهُ إلى المَدينَةِ بِبِنَاءِ مَسجِدِ قُبَاءُ، ثُمَّ بِنَاءِ المَسجِدِ النَّبويِّ مُبَاشَرةً حَتى قَبلَ أَن يَبنِيَ حُجُراتِ زَوجَاتِهِ، فَمَا هُو السِّرُ فِي تِلكَ الأَهميَةِ لِلمَساجِدِ؟
الْمَسَاجِدُ بِيُوْتُ الْلَّهِ، فِيها يُعبَدُ ويُوحَّدُ، ويُعظَّمُ ويُمجَّدُ، هي مَهبِطُ رَحْمَتِهِ، وَمُلتَقَى مَلائِكَتِهِ وَالصَّالِحينَ مِن عِبادِهِ، أَضَافَهَا الْلَّهُ لِنَفْسِهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيْمِ فَقَالَ عزَّ من قَائِلٍ: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوَا مَعَ الْلَّهِ أَحَدا) وَأَذِنَ الْلَّهُ بِرَفْعِهَا وَعِمَارَتِهَا، وَأَمَرَ بِبِنَائِهَا وَصِيَانَتِهَا، فَقَالَ: (فِيْ بُيُوْتٍ أَذِنَ الْلَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذكَرَ فِيْهَا اسْمُهُ).
هِيَ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إليهِ, وَأَطْهَرُ الأَصْقَاعِ عِنْدَهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (أُحَبُّ الْبِلادِ إِلَىَ الْلَّهِ تَعَالَىْ مَسَاجِدُهَا) رواه مسلم.
فِيْ الْمَسَجِدِ يَجِدُ الْمُؤْمِنُ رَاحَتَهُ وَأَنْسَهُ؛ حَيْثُ يُنَاجِيِ رَبَّهُ وَيَتَوَجَّهُ إِلَىَ بِارِئَهْ بِالْرُّكُوعِ وَالْسُّجُودِ، وَالتِّلاوَةِ وَالْدُّعَاءِ،وتُغفرُ العظائمُ والخطيئاتُ، وتُرفعُ الأجورُ والدَّرجاتُ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ: (أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟، إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ) رواه مسلم.
في المَسَاجدِ تَتنزَّلُ السكينةُ والرَّحماتُ، وتُنالُ من الملائكةِ أعظمُ الدَّعواتِ، كما جاءَ في الحديثِ: (الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، ولاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ، لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ الصَّلاَةُ) رواه البخاري.
هي البيوتُ التي أمرَ اللهُ تعالى ببنائها للذِّكرِ والتَّسبيحِ والقُرآنِ، يُصلي فيها رِجالٌ قد عَمَرَ اللهُ قلوبَهم بالإيمانِ، ويخافونَ يوماً تتطايرُ فيهِ الكُتبُ ويُوضعُ الميزانُ، (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) .. قد عَلَّقوا قلوبَهم في مَساجدِ الرَّحمنِ، ينتظرونَ اللَّحظةَ التي يَسمعونَ فيها الأذانَ، فيرجعونَ إلى المسجدِ لِتلتقيَ القُلوبُ بالأبدانِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلمَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ -ومنهم- وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في الْمَسَاجِدِ) رواه البخاري ومسلم.
تَعظيمُ المَساجدِ مِن تَعظيمِ شَعائرِ اللهِ، (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، هَل إذا دَخَلنَا المَسجدَ نَتَواضعُ لِذي الجَلالِ والإكرامِ، هل نستحي من المَلائكةِ الكِّرامِ؟، هَل الجَوارحُ تَخضَعُ؟، هَل القُلوبُ تَخشَعُ؟، هَلْ نَستشعِرُ أنَّنا في بَيتِ العَظيمِ العَزيزِ
أقولُ مَا تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكُمْ ولجميعِ المسلمينَ مِنْ كلِّ ذنبٍ، فاستغفرُوهُ إنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ
الخطبةُ الثانيةُ
الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشكرُ لَهُ على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ تعظيمًا لشأنِهِ، وأشهدُ أنَّ نبينَا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ، وَسَلَّمَ تسليمًا مزيدًا.
أيُّهَا المسلمونَ: مِنُ حُقُوقِ بُيُوتِ اللهِ: الْقِيَامُ بِصِيَانَتِهَا وَتَطْهِيرِهَا وَتَطْيِيبِهَا؛ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ» صححه الألباني.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ امرَأَةً سَودَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ المَسجِدَ، فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَسَأَلَ عَنهَا؟ فَقَالُوا: مَاتَتْ، فَقَالَ: «أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟» قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا» فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ».
وَمِنُ حُقُوقِ بُيُوتِ اللهِ: صِيَانَتُهَا مِنَ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ، وَمِنْهَا: رَائِحَةُ الثُّومِ وَالْبَصَلِ؛ فَإِنَّهُمَا أَذِيَّةٌ لِلْمُصَلِّي وَالْملاَئِكَةِ؛ قَالَ ‏- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلا يَقْرَبَنَّ مسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يتأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» رواه مسلم. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ الَّتِي تُؤْذِي الْمُصَلِّينَ.
وَمِنُ حُقُوقِ بُيُوتِ اللهِ: التَّجَمُّلُ لَهَا بِلُبْسِ الْمَلاَبِسِ النَّظِيفَةِ، وَالتَّطَيُّبُ، وَاسْتِعْمَالُ السِّوَاكِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]
اللهُمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ،
اللهُمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وأذلَّ الشركَ والمشركينَ ودمِّرْ أعداءَ الدينِ
اللهُمَّ آمِنَّا في أوطانِنِا وأصلحْ أئمتَنَا وولاةَ أمورِنَا، اللهُمَّ وَفِّقْ وليَّ أمرِنَا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ لما تحبُّ وترضَى، وخُذْ بناصيَتِهِ للبرِ والتقوَى، اللهُمَّ وفِّقْهُ ووليَّ العهدِ لما فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ.
اللهُمَّ من أرادَنَا وأرادَ بلادَنَا بسوءٍ فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعلْ تدبيرَهُ دمارًا عليه، اللهُمَّ انصُرْ جنودَنا المُرابِطينَ على حُدودِ بلادِنا، اللهُمَّ كُنْ لهم مُؤيِّدًا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا، ووفِّق رجالَ أمنِنَا في كلِّ مكانٍ
اللهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ اِجْعَلْنَا مُقِيْمِينَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّاتِنَا، اللهُمَّ عَلِّقْ قُلُوْبَنَا بِالْمَسَاجِدِ، وَاجْعَلِ الصَّلَاةَ قُرَّةَ أَعْيُنِنَا، وَاجْعَلِ رَاحَتَنَا وَأُنْسَنَا فِيْهَا
اغفِرْ ذنوبَنا، واستُرْ عيوبَنا، ويسِّرْ أمورَنا، وبلِّغْنَا فيما يُرضِيك آمالَنا، ربَّنا اغفِر لنا ولوالدِينا، وارحَمْهُم كما ربَّونا صِغارًا.
اللهُمَّ إنا نسألُك رِضاكَ والجنةَ، ونعوذُ بك من سخَطِك والنارِ.
سبحان ربِّك ربِّ العزةِ عمّا يصفونَ، وسلامٌ على المرسلينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.