سورة الكهف

سورة الكهف

الخطبة الأولى

 الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبدِه الكتابَ ولم يجعل له عِوجا , أحمدُه سبحانه وأشكره وأتوبُ إليه وأستغفرُه ، وأشهدُ أن لا إله ألا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ، هو خيرٌ ثواباً وخيرٌ عُقْبَا , وأشهد أن محمدًّا عبدُه ورسولُه ، صبرَ نفسَه مع الذين يدعون ربَّهم بالغَداةِ والعَشِيِّ يريدون وجهَه ، ولم يردْ زينةَ الحياةِ الدنيا , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، ومن سارَ على دربِهم وعَمِلَ صالحًا ولم يشركْ بعبادةِ ربِّه أحدا ، وسلَّمَ تسليما ، أما بعد :

فقد أنزل الله تعالى كتابَه تبيانًا لكلِّ شيء ، ونورًا مبينًا ، فيه موعظةٌ من الله وشفاءٌ ورحمةٌ ، وأمرَ اللهُ الأمَّةَ بتدبُّرِ آياتِه وعِظَاتِه فقال تعالى : ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ .

عبادَ اللهِ : سورةُ الكهفِ سورةٌ عظيمةٌ ، فيها آياتٌ بليغةٌ ، جاءت النصوصٌ بالأمرِ بقراءتِها في كلِّ يومِ جمعةٍ ، وورد في فضلِها نصوصٌ .

أيها المسلمون ، تحدثت سورةُ الكهفِ عن أربعِ فِتَنٍ ، هي أعظمُ وأكثرُ ما يصيبُ الإنسانَ ، ذُكرت هذه الفتنُ على شَكْلِ قَصَصٍ عجيبةٍ ، وبيَّنَت الآياتُ كيفيةَ التعامُلِ معها ، وهذا هو الـمُـهِمُّ ، وهو أنْ يعلمَ المسلمُ كيفيَّةَ التعاملِ مع الفِتَنِ لا أنْ تَقْتَصِرَ معرفتُه على الفتنةِ فقط .

والفتنُ الأربعُ الواردةُ في سورةِ الكهفِ هي :

الفتنةُ الأولى : فتنةُ الدِّينِ ، وهو أعظمُ ما يملكُه المسلمُ ، وتمثَّلَ ذكرُ هذه الفتنةِ في قصةِ أصحابِ الكهفِ الذين هربوا بدينِهم والتجأوا إلى الكهفِ تاركين أوطانَهم وأهلَهم وأموالَهم ، فكانوا آيةً من آياتِ الله ، حيث أماتهم اللهُ قروناً ثم أحياهم ليكونوا آيةً ، ثم أشارت الآياتُ إلى أسبابِ النجاةِ من فتنةِ الدينِ ، وهو الثباتُ على الحقِّ ، وملازمةُ الصحبةِ الصالحةِ ، مع مجانبةِ أهلِ الغفلةِ وأتباعِ الهوى ، وتذكُّرِ الآخرةِ ، ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا﴾ .

الفتنةُ الثانيةُ : فتنةُ المالِ وتمثَّل ذكرُها وكيفيُّةُ النجاةِ منها في قِصَّةِ صاحبِ الجنّتين الذي أسبغ الله عليه نِعَمَه ، فكَفَرَ بأنعمِ اللهِ ونسيَ أمرَ الساعةِ ، وتكبَّرَ على الناسِ بمالِه ، فأذهبَ اللهُ تعالى زهرةَ جنَّتِه ، وجعلَها خرابا ، ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ﴾  .

ثم بيَّنَ اللهُ سبحانه سبيلَ النجاةِ من فتنةِ المالِ ، بالقناعةِ والزهدِ وفَهْمِ حقيقةِ الدنيا وغرورِها ، وتذكُّرِ الآخرةِ ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ .

الفتنةُ الثالثةُ : فتنةُ العلمِ ، وتمثَّلَ ذلك في قصةِ موسى عليه الصلاةُ السلامُ مع الخَضِرِ عليه السلامُ حيثُ ظَنَّ موسى عليه الصلاة والسلامُ أنه أعلمُ أهلِ الأرضِ , فأوحى له اللهُ تعالى بأنَّ هناك من هو أعلمُ منه ، فذهبَ للقائِه والتعلُّمِ منه ، فلم يصبرْ على ما فَعَلَه الخَضِرُ لقصورِ علمِه عن الحكمةِ في أفعالِه .

ثم ذكرت الآياتُ كيفيَّةَ التعامل مع فتنةِ العلمِ والعصمةَ من هذه الفتنةِ ، وذلك بنسبةِ العلمِ للهِ ، والتسليمِ لأمرِه ، والتواضعِ للحقِّ والخَلْقِ ، وعَدَمِ الغرورِ بالعلمِ ، فها هو الخَضِرُ -عليه السلام- لم يغترَّ بعِلْمِه ، بل نَسَبَ ذلك إلى اللهِ تعالى ؛ اعترافاً بفضلِه وحمداً له فقال : ﴿رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ ، ويتواضعُ له موسى بقوله : ﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾  .

الفتنةُ الرابعةُ : فتنةُ السلطةِ والقهرِ والقوةِ ، وتمثَّلَت في قصةِ ذي القرنين ، الملكِ العادلِ الذي مَلَكَ مشارقَ الأرضِ ومغارِبَها ، وآتاه اللهُ تعالى من كلِّ شيءٍ سببا .

والتعاملُ مع هذه الفتنةِ يكونُ باستعمالِ السُّلطةِ والقوَّةِ والقهرِ فيما يرضي اللهَ ، وفي إحقاقِ الحقِّ وإزهاقِ الباطلِ وإقامةِ العدلِ ، ورفعِ الظلمِ ، ونصرِ المظلومِ ، ﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾

، ثم ظهرَ تسخيرُه لسلطانِه وقوتِه في طاعةِ الله ، عندما مرَّ بقومٍ شكوا إليه إغارةَ يأجوجَ ومأجوجَ عليهم ، وطلبوا أنْ يبنيَ حاجزاً يحجزهُم عنهم مقابلَ مالٍ يدفعونه إليه ، فتعفَّف عن مالهم ، وبادرَ إلى نَجْدَتِهم وبناءِ السَّدِّ ، معترفاً بفضلِ اللهِ تعالى عليه بالسلطانِ والمالِ ، ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ .

أيها المؤمنون ولنا مع سورةِ الكهفِ وقفاتٌ موجزةٌ تناسبُ المقامَ :

الوقفةُ الأولى : أنه وردَ ما يدلُّ على فضلِها وخصيصتِها ، فعن الْبَرَاءِ بن عازبٍ -رضي الله عنه- قال : (قَرَأَ رَجُلٌ الْكَهْفَ وَفِي الدَّارِ دَابَّةٌ فَجَعَلَتْ تَنْفِرُ فَنَظَرَ فَإِذَا ضَبَابَةٌ أَوْ سَحَابَةٌ قَدْ غَشِيَتْهُ) , قَالَ : فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ : ((اقْرَأْ فُلَانُ فَإِنَّهَا السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ عِنْدَ الْقُرْآنِ أَوْ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ)) ، متفق عليه .

الوقفةُ الثانيةُ : أنّه تُشرعُ قراءتُها يومَ الجمعةِ ، فقد روى الحاكمُ والبيهقيُّ عن أبي سعيدٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال : ((مَنْ قرأَ سورةَ الكهفِ في يومِ الجمعةِ أضاءَ له من النورِ ما بين الجمعتين)) ، وفي روايةٍ للحاكمِ قال : ((من قرأَ الكهفَ كما أُنزلت كانت له نوراً يومَ القيامةِ من مَقَامِه إلى مَكَّةَ)) ، وهاتان الروايتان صحَّحَ إسنادَهما جمعٌ من أهلِ العلمِ مرفوعًا وموقوفًا ، والموقوفُ له حكمُ الرفعِ .

فهذه النصوصُ تدلُّ على فضيلةِ قراءةِ سورةِ الكهفِ يومَ الجمعةِ ، ولا يَغُرُّكم من قالَ بعدمِ ثبوتِ ذلك عن النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم ، فإنَّ العملَ على ذلك عندَ سَلَفِ هذه الأمَّةِ ، ومنهم صحابةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وهذا يدلُّ أنَّ ذلك محفوظٌ في الشرع ، وعليه أيضا عَمَلُ أئمةِ الإسلامِ الكبارِ ، ومنهم الإمامُ أحمدُ رحمه الله  .

ويكفي ولله الحمدُ أن ذلك ثابتٌ إما بالنصِّ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو بفعلِ صحابته رضي الله عنهم ، وهذا –أعني فعلَ الصحابةِ- يدلُّ على أنَّ ذلك ثابتٌ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم .

الوقفةُ الثالثةُ :  أنَّ حفظَ عشرةِ آياتٍ من أوّلِ سورتِها عاصمةٌ من فتنةِ الدجَّالِ ، فقد روى مسلم عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ : ((مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنْ الدَّجَّالِ)) ، وفي رواية أخرى لمسلم : ((مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ)) .

وعن النّواس بن سمعانَ في حديثِه في ذكرِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- خروجَ الدَّجَّال ، وفيه : ((فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ)) رواه مسلم ، زاد أبو داود : ((فإنها جٍوارُكم من فتنته)) .

فحريٌّ بنا أن نَحْفَظَ الآياتِ العشرَ الأولى من سورةِ الكهف ، وكذلك الأخيرةَ منها ، ففي ذلك عصمةٌ من فتنةِ الدجَّالِ -أعاذنا الله وإياكم من هذه الفتنة العظيمة- ، وحريٌّ بنا أيضا أن نُعَلِّمَها أولادَنا وأهلينا ، وأن نجعلَهم يحفظونها دلالةً لهم على الخيرِ ، فإنَّ أعظمَ النفعِ الذي يقدِّمُه المسلمُ لغيرِه هو الدلالةُ على الخيرِ .

والحكمةُ في كونِها عاصمةً من فتنةِ الدجَّالِ -واللهُ أعلمُ- ؛ هو أنَّ سورةَ الكهفِ تضمَّنت أسبابَ الوقايةِ من فتنةِ الدينِ وفتنةِ المالِ وفتنةِ العلمِ وفتنةِ السُّلطةِ والقوةِ ، والدجّالُ -أعاذنا الله وإياكم من فتنته- قد جمعَ بين أنواعِ هذه الفتنِ ، إذ يفتنُ الناسَ في دينِهم ويدعوهم إلى الشركِ ، وهو فتنةٌ في المالِ إذ يَـمُرُّ بالخَرِبَةِ فتتبعُه كنوزُها ، ويُغْدِقُ بها على أتباعِه ، وهو فتنةٌ في العلمِ إذْ يخبرُ الرجلَ عن أبيه وأمه ، ويأتي بأنواعٍ من العلومِ والعجائبِ يجعلُ مَنْ يراه يفتتنُ به ، وهو في فتنةٌ في القهرِ والسلطةِ ؛ إذْ تَدِينُ له الممالكُ ، ويعيثُ في الأرضِ فساداً ، وما من بلدٍ إلا يبلغُها سلطانُه إلا مكةَ والمدينةَ ، فكانت هذه السورةُ العظيمةُ عاصمةً من فتنتِه الكبيرةِ ، لأنَّ اللهَ ذكرَ فيها أسبابَ النجاةِ وكيفيَّةَ الخلاصِ من الفتنِ ، وأعظمُها الفتنُ الأربعُ .

الوقفةُ الرابعةُ : أنَّ سورةَ الكهفِ بُدِئت بذكرِ بالتوحيدِ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ ، واختُتِمَت بذكرِ التوحيدِ ، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ ، وهذا يدلُّ على عظمِ التوحيدِ وأنه أمرٌ عظيمٌ جللٌ ، يجبُ على المسلمِ أن يهتمَّ به اهتماماً عظيماً  .

الوقفةُ الخامسةُ : أنه إنْ كنتَ مع اللهِ سبحانه وتعالى فإنَّ اللهَ معك ، ولو كنتَ في كهفٍ مظلمٍ ، فإنَّ العاقبةَ للمتقين ، ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا﴾ .

الوقفةُ السادسةُ : أنَّ صحبةَ الصالحين خيرٌ من صحبةِ أهلِ الغِنى والشرفِ والمالِ ، فإنَّ صحبةَ الصالحين سببٌ من أسبابِ الثباتِ على الدين ، ولهذا كانت أعظمَ من صحبةِ أهلِ الغنى والشرفِ والمالِ ، ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ .

الوقفةُ السابعةُ : أنَّ العبدَ مأمورٌ بفعلِ الأسباب ، ومنها فعلُ أسبابِ الهدايةِ ، أما حصولُ الهدايةِ وتحقُّقُّها فهو بيدِ اللهِ ، ولهذا فإنَّ العبدَ يلجأُ إلى اللهِ وحده بسؤالِ الهدايةِ ، ولا يعتمدُ على حولِه وقوَّتِه ، ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ ، فالذي زادَ الفتيةَ هُدىً وربطَ على قلوبِهم هو اللهُ ، ولم يكن من هؤلاءِ الفتيةِ إلا أنهم فعلوا الأسبابَ .

الوقفةُ الثامنةُ : أنَّ طاعةَ اللهِ وذِكْرَه خيرُ مايشتغلُ به الإنسانُ ، ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ ، وقد وردَ في تفسيرِ الباقياتِ الصالحاتِ بأنهنَّ : التهليلُ والحمدُ والتسبيحُ والتكبيرُ وقولُ لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله .

عصمني اللهُ وإياكم من الفتنِ ، ما ظهرَ منها وما بطن ، أقول ما تسمعون ، وأستغفر اللهُ لي ولكم ، فاستغفروه ، إنه هو الغفورُ الرحيمُ .

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلَهُ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً ، أمَّا بَعْدُ :

عبادَ الله : اقرؤوا القرآنَ ، وتَدَبَّروا معانيَه ، وخُذوا بأمرِه ونهيِه ، واعتبروا بقَصَصِه ، فإنَّ اللهَ أنزله عليكم هدايةً ورحمةً ونوراً ، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ .

وما أجملَ أن يكونَ للمسلمِ وردٌ في قراءةِ القرآنِ ، ووردٌ في قراءةِ تفسيرِ القرآنِ ومعانيه ، فيقرأُ مثلا في مختصراتِ التفسيرِ الموثوقةِ ، ككتابِ التفسيرِ الميسَّرِ الذي وضَعَه وطَبَعَه مُـجَمَّعُ الملكِ فَهْدٍ لطباعةِ المصحفِ في المدينةِ النبويةِ ، وهو تفسيرٌ مختصرٌ في مجلدٍ واحدٍ يُباع بسعرٍ مناسبٍ في عامَّةِ المكتبات ، ويُمكنُ تنزيلُه في الهواتفِ الذكيَّةِ ، فالخيرُ وللهِ الحمدُ سهلُ المنال ، والموفَّقُ من وفَّقه اللهً .

أيها المسلمون : اقرؤوا سورةَ الكهفِ ، وتأملوا معانيَها ، واحفظوها ، واحفظوا الآياتِ العشرَ الأوائلَ منها ، وحَفِّظُوها أبناءَكم وأهلَ بيتكم ، فإنَّ حفظَ هذه الآياتِ -أعني العشرَ الأوائلَ منها- عصمةٌ من فتنةِ الدجَّالِ  .

عبادَ الله : صلُّوا وسلِّموا على رسولِ اللهِ فإنَّ اللهَ أَمَركَم بذلك في قوله : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللهُ عليه بها عشراً)) ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبيك محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين .

الَّلهُمَّ ارْزُقْنَا سَبِيلَ الْمُرْسَلِينَ ، وَجَنِّبْنَا طَرِيقَ الْمُبْطِلِينَ ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ ، وَاحْفَظْنَا بِالإِسْلَامِ قَائِمِينَ وَقَاعِدِينَ .

الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن ، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى ، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ ، حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ ، وَاقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ ، اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا ، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا ، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا ، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ، رَبَّنَا وآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ .

اللهم اغفر لآبائِنا وأمهاتِنا ، اللهم اغفرْ لأحيائِنا وأمواتِنا ، اللهم أمِتْنا على التوحيدِ والسنَّةِ ، وأدخلنا الجنَّةَ وقِنَا عذابَ النارِ .

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ .

انتقاء وتنسيق مجموعة خطب منبرية

قناة التيلغرام : t.me/kutab